الخميس، 2 أبريل 2020

هل الذاكرة ذات طابع فردي؟

طبيعة الذاكرة

هل الذاكرة ذات طابع فردي؟

هل الذاكرة ذاتية؟


المقدمة
يحتاج الإنسان لتفاعله مع العالم الخارجي و تكيفه مع المواقف الراهنة إلى استحضار ذكرياته، حيث تشارك الذاكرة بشكل كبير في تحسين ذلك التكيف و إذا كان الاتفاق واردا بين الفلاسفة و المفكرين حول قيمة الذاكرة فإن طبيعتها شكلت محور اختلاف و تعارض، أين ظهرت عدة اتجاهات تحاول تفسير الأساس الذي تقوم عليه الذاكرة، فهناك من يعتقد أنها ذات طبيعة فزيلوجية مادية و هناك من يرجعها إلى أسباب نفسية في أكد البعض ارتباط الذاكرة بأسباب اجتماعية و في ظل هذا التعارض نطرح الإشكال التالي:
هل الذاكرة ذات طبيعة فردية-مادية، نفسية- أم اجتماعية؟

الموقف الأول: إن الذاكرة ذات طابع فردي و هذا ما أكدته النظرية النفسية و المادية

       النظرية المادية – فزيلوجية، جسمية، عضوية، بيولوجية، دماغية- : يرى أنصار النظرية المادية أن طبيعة الذاكرة ترجع إلى وظائف عضوية، أي أنها مرتبطة بالجهاز العصبي للإنسان، و من أبرز الداعين إلى هذا الطرح نجد الطبيب ابن سينا الذي فسر الذاكرة تفسيرا ماديا إ يقول" إنها قوة محلها التجويف الأخير من الدماغ، من شأنها حفظ ما يدركه العقل من معاني جزئية" كما دعى إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي ديكارت حيث أرجع عملية التذكر على خصائص بيولوجية يقول في هذا الصدد "الذاكرة تمكن في ثنايا الجسم" و الدليل على ذلك هو أن أي إصابة في الجهاز العصبي، أو اختلال في الدورة الدموية او الصداع  أو ضيق في التنفس أو الصرع بالإضافة إلى الارهاق كلها عوامل فزيلوجية تؤثر على قدرتنا على استرجاع الذكريات، كما أن قدرة الطفل على استرجاع الذكريات تختلف عن قدرة المسن لذا ينصح بالحفظ في سنوات متقدمة من العمر، يقول تين" المخ وعاء لحفظ الذكريات"
    إلا أن أكبر المؤيدين للتفسير المادي نجد العالم الفرنسي ريبو الذي أكد في كتابه أمراض الذاكرة أن الذاكرة بمثابة أسطوانة نسجل فيها ماضينا فأي خلل يصيب الخلايا الدماغية سيؤدي حتما إلى اتلاف الذكريات، و قد تم اكتشاف منطقة في القشرة الدماغية تسمى البروكا نسبة إلى مكتشفها و هي المسؤولة عن حفظ الذكريات يقول ريبو "الذاكرة وظيفة عامة للجهاز العصبي" و يضيف "إن الذاكرة حادثة بيو لوجية بالماهية و نفسية بالعرض" فقد استدل ريبو في موقفه هذا بالإصابات الدماغية و من بينها مرض الحبسة الحركية بمعنى أن إصابة الجهة اليسرى من الدماغ يتسبب في فقدان ذكريات الجهة اليمنى من الجسم و العكس صحيح فقد تم التجريب على فتاة أصابتها رصاصة في الجهة اليسرى من الدماغ فتم تعصيب عينيها ووضع مشط في يدها اليمنى فلم تتعرف عليه و ما إن وضع المشط في يدها اليسرى حتى تعرفت عليه و هذا ما يدل على تأثير الدماغ في عملية التذكر
    النقد:
   قد يكون للدماغ و الجانب الفزيلوجي عامة تأثير بليغ في عملية حفظ الذكريات، إلا أن إرجاع الذاكرة إلى الدماغ بصفة مطلقة أمر مبالغ فيه، فقد أهمل هذا الموقف الجانب النفسي للإنسان و جعل منه آلة بيولوجية، فقد انتقد برغسون البيولوجيين إذ يقول"لو صح أن تكون الذكريات شيء ما نحتفظ به في الدماغ لما أمكنني أن أحتفظ بشيء من الأشياء بل بآلاف الذكريات" كما أن أمراض الذاكرة تثبت أن الإنسان قد يصاب دماغه و لا يفقد ذاكرته، و قد يفقد ذكرياته حتى مع سلامة الدماغ زيادة على ذلك لم يثبت العلم إلى حد الآن وجود آثار مادية تتركها الذكريات للدماغ.
     ب.النظرية النفسية – السيكولوجية-:
      يعتقد أنصار النظرية التنفسية بزعامة برغسون أن طبيعة الذاكرة لا يمكن أن تكون مادية مستبعدين أن تكون مجرد وظيفة للجهاز العصبي كما يدعي ريبو و إنما هي مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحالة النفسية السيكلوجية الشعورية للفرد، فالذاكرة وظيفة نفسية واعية قوامها الشعور فهي جوهر روحاني يقول عنها جميل صليبا"الذاكرة هي القدرة على إحياء حالة شعورية مضت و انقضت مع العلم و التحقق أنها جزء من حياتنا الماضية"
      إذ تبقى الحوادث محفوظة في علم أعماق النفس، و لا تعود إلى ساحة الشعور إلا عند الحاجة لذا يرى برغسون أن دعاة النزعة المادية قد وقعو في خلط كبير بين نوعين من الذاكرة هما:
       *الذاكرة الحركية العادة :و هي مرتبطة فعلا بالجهاز العصبي، لأنها تقوم على التكرار مثل حفظ قصيدة، تعلم السياقة
       * الذاكرة النفسية الشعورية الحقيقة: و هي حسب برغسون تمثل الوجه الحقيق للذاكرة فهي مستقلة عن الجسم لا تعتمد علة التكرار و هي محفوظة في أعماق النفس و هي تشتمل الماضي بأكمله سواء كانت ذكريات سعيدة أو حزينة، إذ يرى برغسون أنه لا فرق بين الذاكرة و الشعور يقول " الشعور هو الذاكرة" و يضيف " ليس هناك من شك في أن ماضينا بأكمله يتبعنا في كل لحظة من لحظات حياتنا" و كمثال على ذلك تذكرنا لحادث مفرح وقع في الملضي و أثر على شعورنا كالنجاح و هي ذكرى لا تتكرر و مع ذلك تبقى مخزنة في النفس لذا اتفق أنصار النزعة النفسية على القول أن الجانب النفسي هو المسؤول عن تخزين الذكريات إذ يرى برغسون أنه ما من داعي إلى طرح الإشكال أين توجد الذاكرة؟ لأن الاذكرة لا توجد في أي مكان بل في النفس يقول في هذا الصدد برغسون" في الحقيقة لست متيقنا أن أداة الاستفهام أين يقى لها معنى حين نتكلم عن ما ليس له جسم"
    النقد:
    لا يمكن إنكار ما جاء به أنصار النظرية النفسية إذ أن للنفس دور كبير في تحديد الذكريات فنحن نتذكر ما يؤثر في نفسيتنا إيجابيا أو سلبياإلا أن ما يؤخذ على هذا الموقف هو إهمالهم للجانب المادي و الاجتماعي في الإنسان فقوة الذاكرة من قوة الجهاز العصبي و البنية الفزيلوجية إذ يثبت العلم أن تناول بعض المؤثرات الكيميائية كالمخدرات تؤثر تأثيرا بليغا على الذاكرة كما أن الفرد ابن مجتمعه و لا يمكن أن يعيش ماضيه بمفرده، زيادة على هذا اعتبر هذا الموقف أن الإنسان وعي و شعور و تغافلو عن وجود جانب آخر و هو اللاشعور
  ج. النظرية الاجتماعية –السوسيولوجية-:
          إذا كان كل من ريبو و برغسون قد أكدا على الجانب الفردي للذاكرة الإنسانية فإن علماء الاجتماع يرون أن الذاكرة ذات بعد اجتماعي فهي ليست تابعة للفرد بل ظاهرة مشتركة بين الفرد و الجماعة، فمن المجتمع يستمد وجوده و يكون ذكرياته بمعنى أن البيئة التي تنتمي إليها هي التي تحفظ خبرتنا الماضية و تقدم الوسائل التي تساعدنا على الاسترجاع يقول دوركايم "حينما يتكلم الضمير فينا فإن المجتمع هو الذي يتكلم" و أول ما يمدنا به المجتمع هو اللغة فلغة الفرد هي لغة الجماعة و جل ما يتم تخزينه من ألفاظ مصدره المجتمع فنحن لا نعيش ماضينا الخاص بل نعيش ماض مشترك يتقاطع في عدة مناسبات تظهر في العادات، التقاليد، الأعياد الدينية و الوطنية فالمجتمع يذكرني بعيد الثورة مثلا يقول هالفاكس" إن المجتمعات التي انتمي إليها هي التي تذكرني في كل لحظة الوسائل التي أستعيد بها ذاكرتي" فالمجتمع هنا يعمل عمل المنبه الذي يخبرني بالذكرى يقول هالفاكس"إن الماضي لا يحتفظ به بل يعاد بناؤه انطلاقا من الحاضر و الذكرى تكون قوية لما تبعث في نقطة التقاء الأطر" و يضيف"هو الذي يدفعني إلى التذكر لأن ذاكرته تساعد ذاكرتي كما أن ذاكرتي تعتمد على ذاكرته" كما عبر بيار جانيه على دور المجتمع في الذاكرة فماضينا محفوظ في ذاكرة المجتمع و ينتقل إلينا عبر عدة وسائل كالرواية، الشعر و القصة يقول بيار جاني "لو كان الإنسان وحيدا لما كون ذاكرة و لما احتاج إليها" و قد عبر عن هذا العلامة ابن خلدون حيث أشار إلى التأثير البليغ للمجتمع في الفرد يقول "الإنسان ابن بيئته "كما نجد الفيلسوف مونتاي الذي اعتبر المجتمع سلطة تقرر مصير الفرد يقول"إن الضمير الأخلاقي ليس إلا انعكاسا للتقاليد التي يكتسبها الفرد في مجتمعه منذ الطفولة"
  النقد:
           حقيقة يساهم المجتمع في تخزين الذكريات كما يقول ابن خلدون "الإنسان مدني بالطبيعة" إلا أن هذا الموقف اهتم بالجانب الاجتماعي و أهمل الجوانب النفسية، الفزيلوجية. كما أن المجتمع هو تعداد أفراد ، فالفرد هو الأصل و ليس العكس، و قد يحدث أن يحتفظ الفرد بذكرياته الخاصة التي لا دخل للمجتمع فيها خاصة تلك التي تكون مرتبطة بميوله و رغباته كالشعور بالفرح في حادثة شخصية.
      التركيب: ما يلاحظ من خلال كل المواقف أن الذاكرة متعددة المستويات فقد تحمل طابعا فرديا يتقاسمه الجسم و النفس و قد تحمل طابعا اجتماعيا يكون الغير فيه مسؤولا عن ذكراياتنا، فالذاكرة هي محصلة الفرد و المجتمع.
الخاتمة:
نستنتج في الأخير أن الذاكرة متعددة الأبعاد فهي وظيفة لا يمكن إرجاعها إلى عامل دون آخر بل مرتبطة بالإنسان كشخص تميزه تركيبته النفسية الفزيلوجية و الاجتماعية و الملاحظ أن ذكرياتنا كثيرا ما تعرض للنسيان فما هو النسيان و هل هو عائق معيق للذاكرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق